كلنا سمع بقصة أم موسى (ع). فإنها بعد ما أنجبته في تلك الأيام المتوتّرة والأجواء المتكهربة والظروف العصيبة على كلّ ولد فضلا عن موسى(ع)، خافت عليه وظلّت لا تدري كيف تحافظ عليه. فأوحى الله إليها وأعطاها وصفةً كانت بوصفة الموت والهلاك أشبه منها بوصفة النجاة والحياة. (وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّ مُوسى‏ أَنْ أَرْضِعيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقيهِ فِي الْيَمِّ وَ لا تَخافي‏ وَ لا تَحْزَني‏ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلين‏) [القصص/ 7]. ما هو الدرس الكامن في هذه القصة وما هي العبرة التي تؤخذ منها؟

هل رسالة هذه القصة هي أن نرمي بأولادنا في الشط إن خفنا عليهم؟! وهل قد تصدّت هذه القصة لإعطاء طريق للحفاظ على كل شيء عزيز وغالي؟! بالتأكيد كلا. إذن فما هي رسالتها؟

ثم لا يخفى أنه لا يسعنا أن نعتبر هذه القصّة تحكي حدثا استثنائيّا لن يتكرر بعد أبدا. فلو كانت القصّة استثنائية ولا تعبّر عن قانون ثابت فما الداعي من ذكرها في القرآن الذي أراد أن نتدبر في آياته ونتفكر في قصصه (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون‏) [الأعراف/ 176]؟ فكيف نفكّر فيها وما هي النتيجة التي يمكن أن نخرج بها عبر التفكّر في هذه القصة؟ أفهل هناك حقيقة ثابتة وقانون دائم تحدثت عنه؟

من خلال هذه القصة نفهم أن الله سبحانه وتعالى لا يخالف أهدافنا وغاياتنا التي نصبو إليها. فإذا كنّا نحب الراحة والسعادة واللذة والجاه والأمن والبركة والثروة والصحة والعزّ والأمان، فإنه سبحانه لا يخالف شيئا منها بل هو الذي زرع حبها في قلوبنا لسنعى إليها. ولكنه سبحانه ومن أجل نيل هذه الأهداف في الدنيا قبل الآخرة قد وصف لنا وصفات وأرشدنا إلى طرق هي أبعد ما تكون بحسب ظاهرها من هذه الأهداف. فلا يتخذها ولا يسلكها إلا من وثق بالله وآمن به.

لقد أراد الله لنا الغنى والبركة في المال، ولكنه جعل الإنفاق والزكاة طريقا إليه. وأراد لنا العز والأمان فجعل الجهاد طريقا إليه. وأراد لنا الرفعة والجاه العظيم، وجعل التواضع طريقا إليه. وأراد لنا الاستمتاع بلذات الدنيا فجعل الإمساك وغض السمع والبصر طريقا إليه. فإنه سبحانه تعالى قد ملأ الدنيا بالطرق غير المباشرة. فترى كلما كان الأنبياء يرشدون الناس ويهدونهم إلى هذه الطرق، استهزئوا بهم (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُن‏) [يس/30].