رشحات فكري وقلمي

۷ مطلب در می ۲۰۱۴ ثبت شده است

34ـ نصف ساعة بس

من باب أن فرض المحال لیس بمحال وعلى غرار بعض القصص والأفلام الخیالیة تصور أن الحکومة تعلن عبر بیان عام موجّه إلى کافة الشعب العراقی، أن من أجل مکافحة حالة التصحر فی العراق والحیلولة دون ظاهرة العجاج التی باتت لا تنفک عن مناخ العراق، قررت الوزارة على حملة جادة لغرس الأشجار على ید أبناء الشعب العراقی،  فمن یقوم  بغرس مئة شجرة فی الأراضی المعدة والمخصصة لذلک، یعطى بیتا بمساحة 200 متر!

ماذا سیحدث عندئذ؟… من الواضح أنه سیصبح أکثر الشعب العراقی فلاحین وسیستعد الکل إلى غرس مئة شجرة لیحصلوا على بیت بمساحة 200 متر، مع أنک تعلم بأنه لو استغرق غرس کل شجرة ربع ساعة على الأقل، فسیحتاج المشروع إلى 25 ساعة من العمل والتعب…

والآن اخرج من عالم الخیال إلى عالم الواقع والحقیقة واقرأ هذه الروایة التی هی نموذج واحد من عشرات الأخبار التی تعدک بأجر کبیر فی مقابل عمل صغیر…

یقول السید بن طاووس: وجدناها بإسناد متصل إلى عبد الله بن عباس قال قال رسول الله ص من صلى یوم الجمعة فی شهر رجب ما بین الظهر و العصر أربع رکعات یقرأ فی کل رکعة الحمد مرة و آیة الکرسی سبع مرات و قل هو الله أحد خمس مرات ثم قال أستغفر الله الذی لا إله إلا هو و أسأله التوبة عشر مرات کتب الله تبارک و تعالى له من یوم یصلیها إلى یوم یموت کل یوم ألف حسنة و أعطاه الله تعالى بکل آیة قرأها مدینة فی الجنة من یاقوتة حمراء و بکل حرف قصرا فی الجنة من درة بیضاء و زوجه الله تعالى من الحور العین و رضی عنه رضا لا سخط بعده و کتب من العابدین و ختم الله تعالى له بالسعادة و المغفرة و کتب الله له بکل رکعة صلاها خمسین ألف صلاة و توجه بألف تاج و یسکن الجنة مع الصدیقین و لا یخرج من الدنیا حتى یرى مقعده من الجنة. [السید بن طاووس، إقبال الأعمال، ص637]

…ولا أظن أن الصلاة تحتاج إلى أکثر من نصف ساعة؛ نصف ساعة بس! 


۰ تعداد التعليقات موافقين ۰ مخالفين ۰
مقدام باقر الحيدري

33ـ مغامرات المؤمنین

أحد البرامج الجذابة فی القنوات والفضائیات هی المسابقات، وخاصة المسابقات الحرکة التی لم تکتف بالسؤال والجواب وحسب، بل تعتمد على اختبار مهارات وقدرات وقابلیات المتسابقین، حیث عادة ما تتصف بالحیویّة والنشاط والحرکة، وتشدّ أنظار المشاهدین من خلال الدیکور والتصمیم الغریب والمفاجآت التی یواجهها المتسابقون أثناء سباقهم.

إن القاسم المشترک  بین هذه المسابقات هو العقبات الصعبة والمفاجآت التی یمرّ بها المتسابقون. فعلى سبیل المثال قد یقیّد المتسابقون و تکبّل أیدیهم أو تسدّ أعینهم حین أداء مهمّتهم، أو یؤمرون باجتیاز طریق عکر أو مزحلق أو متحرک، وقد یجبرون بالانغمار فی الطین مثلا أو الغوص فی الماء أو لمس بعض الحیوانات المرعبة ونحو ذلک. وعلى المتسابق أن یتحدّى کل هذه العقبات.

وبالرغم من کل هذه التحدّیات والعقبات الصعاب، نجد المتسابقین جمیعا مطمئنین مستبشرین وموطنین أنفسهم على خوض الغمرات واحتمال کلّ شیء فی سبیل الفوز.

وأما لو انزعج أحد المتسابقین واعترض على هذه الموانع والعقبات الموجودة فی المسابقة، فسیضحک علیه المخرج والمقدّم والمتفرجون والمشاهدون والناس أجمعون…

وشاهد المثال واضح؛ إن أجواء هذه الدنیا وتصمیمها ودیکورها وقوانینها وکل ما فیها مصمّم على أساس إجراء مسابقة بین الناس. ﴿إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زینَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَیُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا کهف/7. ولهذا قد امتلأت بمختلف العقبات والصعاب والشدائد والهزائز، لأنها لم تصمّم من أجل الراحة والاستقرار، بل من أجل التنافس والسباق.

ومن أهم الفوارق بین المؤمن وغیره، هو أن المؤمن یعلم حقیقة هذه الدنیا وموقعها ویعرف دوره الذی یجب أن یؤدیه فیها. هو یعرف أن هذه الدنیا مسابقة، ولهذا لا یهتزّ ولا یتفاجأ ولا یستوحش عند مواجهة المطبّات والعقبات والمشاکل، إذ یعرف جیدا أن کل هذه المشاکل من طبیعة أجواء السباق. إذا أصیب المؤمن بالفقر أو المرض أو بلاء آخر، یعرف أنه قد دخل مرحلة جدیدة من السباق، ویجب أن یجتاز هذه المرحلة ویستمرّ فی مثابرته مع هذه الظروف والقیود. ثمّ عندما تنتهی عقبة ویجتاز مرحلة، ینتظر  مجیء عقبة أعقد ومرحلة أعوص، و هذا ما تفرضه طبیعة المسابقات. فعندما تنزل النازلة ویواجه المشکلة، یزداد عزمه وإیمانه، إذ یجد أن کل الأحداث تطابق حساباته وتوافق الأخبار التی تلقاها من الله ورسوله؛ ﴿وَ لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ ما زادَهُمْ إِلاَّ إیماناً وَ تَسْلیما الأحزاب/22.   

بینما غیر المؤمن الجاهل أو الغافل عن حقیقة الدنیا، یفتش عن آماله وراحته وسعادته المطلقة فی هذه الدنیا. ولا شکّ فی أن الإنسان الذی راح یبحث عن الاستقرار والراحة والدعة فی قاعة الامتحان وصالة المسابقة، لن یصل إلى ضالّته وسیحرم نفسه من الفرح والنشاط والبهجة التی یحظى بها أهل المغامرة والسباق.  
۱ تعداد التعليقات موافقين ۰ مخالفين ۰
مقدام باقر الحيدري

32ـ مدینة الکامرة الخفیة

کلنا نعرف برامج الکامرة الخفیة. یحاول المخرج فی هذه البرامج أن یوقع الناس فی موقف خاص لیشاهد ردّ فعلهم. ویحاول بعض مخرجی البرامج الکامرة الخفیة أن ینتج برنامجا هادفا ذات رسالة أخلاقیة أو دینیة للمشاهد، فیوقع الناس فی فخ موقف مختلق ویصوّر مدى التزامهم بالقیم والمثل والأخلاق والدین. وکل جمال هذه البرامج مشروط بخفاء الکامرة ولو لا ذلک لما کانت جذابة لا للمخرج ولا للمشاهد.

منذ فترة وإنی قد تعرفت على مخرج من مخرجی برامج الکامرة الخفیة، لکن باعتباره لم یدرس على ید أستاذ ولم یدخل جامعة، فوجدت برنامجه یختلف عن باقی البرامج بکثیر. وبعد أن شاهدت أسلوبه الرائع والفرید فی إخراج هذه البرامج، وددت أن أعرفکم علیه وأشرح لکم طریقته فی الإخراج.

إن هذا المخرج یهیئ مدینة بکاملها لإخراج البرنامج! ثم یملأها بالکامرات واللاقطات الخفیة لیسیطر على کل صغیر وکبیر یحدث فیها، ثم یستقبل آلافا من المشارکین ویسکنهم لمدة غیر معینة حیث قد یعلن إنهاء وقت أحد المشارکین فی أی لحظة، وقد یمهل البعض أسابیع أو أشهر وحتى سنین. فلا یدری أحد متى ینتهی وقته.

من ممیزات هذه المدینة هو دیکورها الرائع والطبیعی حیث یألفها أکثر المشارکین ولا یرغبون بإعلان نهایة وقتهم. ومن العجیب جدا هو أن الکثیر من المشارکین قد ینسون موطنهم الأصلی ولم یشتاقوا إلى بیوتهم!

بعد ما یدخل المشارکون فی هذه المدینة، یدعوهم مقدّم البرنامج ویبلغهم قوانین هذه المسابقة، فإن طبقوها ینالوا نقاطا موجبة وإن خالفوها یکسبوا نقاطا سالبة. ومن العجیب أنه یخبر المشارکین بأن المدینة قد ملئت بالکامرات واللاقطات ولا یخفى عن المخرج شیء أبدا.

الشیء اللطیف الآخر هو أن میزانیة هذا المخرج میزانیة هائلة، وصلاحیاته واسعة جدا. فقد أعدّ لأبسط النقاط جوائز لا تصدّق؛ إذ لا یقل ثمن أبسط الهدایا والجوائز عن ثمن عشرات الأطنان من الذهب! وقد أتاح الفرصة للمشارکین من خلال هندسة المدینة وقوانینها أن ینالوا النقاط الموجبة فی أی لحظة… وأجاز المخرج للمشارکین أن یتعاونوا فیما بینهم على کسب أکثر عدد من النقاط من خلال تعلیم القوانین والتشجیع على السعی الأکثر لکسب النقاط، بل شجعهم على ذلک وأعدّ لهذا العمل نقاطا کثیرة. کما أنه أعطى الفرصة لمن کسب النقاط السالبة أن یتدارک ذلک ویحذفها ویعوضها بنقاط موجبة.

ولکن الأمر العجیب والغریب الذی لا یصدق هو أننی عندما اطلعت على داخل المدینة رأیت أکثر المشارکین بغفلة عن قوانین المسابقة وأهمیتها حیث کان المنظر بعیدا عن أجواء السباق والتنافس… والله إنه لأمر عجیب…


۰ تعداد التعليقات موافقين ۰ مخالفين ۰
مقدام باقر الحيدري

31ـ اعلم بأنک تراسل الإمام

لقد ذکرت الروایات أن أعمالنا تعرض فی کل یوم ولیلة على الإمام (ع) وسیطلع الإمام على صحیفة أعمالنا وکل ما عملناه من حسن وقبیح.

وبالتأکید سوف یشار إلى نوایا أعمالنا فی الهامش أو فی مکان آخر ولا شک فی أن الإمام الحجة (عج) سوف یهتمّ بهذا الشرح المذکور فی الهامش.

طبعا کما ترى إن هذه المعلومات لیست صریح الروایات ولکنها نتیجة تأمل قصیر وبسیط فی مضمونها وبالتالی یقطع الإنسان بصحتها.

فیبدو أننا مجبورون على أن نراسل الإمام یومیا ولا بد لنا من ذلک، ولکن بخلاف باقی الرسائل التی تکتب بالقلم والمداد، یجب أن نکتب هذه الرسالة بأعمالنا وأفعالنا. إذن فی الواقع أعمالنا وتصرفاتنا الیومیة هی کلماتنا التی نراسل بها الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشریف) …

فطوبى لمن عرف هذه الحقیقة وعاشها طیلة حیاته، فتصبح حیاته کلها کرسالة حب وولاء لإمام العصر. فکل ما یعمل هذا الإنسان من جمیل، إنما فی سبیل أن یرسم ابتسامة على شفاه الإمام، ویترک المعاصی من أجل أن لا یزعج الإمام.

فإن صحیفة أعمال هذا الإنسان وما تنطوی علیه من  نوایا جمیلة هی رسالة حب وولاء وعهد لإمام زمانه. ویمکن أن تترجم حیاته کلها بکلمة واحدة یعبرها من قلبه وبکل وجوده مخاطبا أمامه : بنفسی أنت…

۰ تعداد التعليقات موافقين ۰ مخالفين ۰
مقدام باقر الحيدري

30ـ خلاصة حیاة أولی الألباب

لقد نسب إلى الرسول الأعظم صلى الله علیه وآله أنه قال: "اللهم أرنا الأشیاء کما هی" وقد انطلق الحکماء والعرفاء من هذا الدعاء إلى مختلف الأبحاث الفلسفیة والعرفانیة التی تهدف إلى معرفة الوجود ومعرفة الله سبحانه ومعرفة النفس والإنسان الکامل والعوالم المختلفة وغیرها من الحقائق.

ولعله یمکن القول بأن جمیع الانحرافات والضلالات العقدیة والعملیة والأخلاقیة ناجمة عن الخلل الحادث فی معرفة حقائق الأمور. ومن أهمّ الحقائق التی لابدّ أن تعرفها، هی حقیقة هذه الدنیا. ولهذا تجد عقلاء العالم قد أطالوا التفکیر فی حقیقة الدنیا (إِنَّ فی‏ خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّیْلِ وَ النَّهارِ لَآیاتٍ لِأُولِی الْأَلْباب‏ * الَّذینَ یَذْکُرُونَ اللَّهَ قِیاماً وَ قُعُوداً وَ عَلى‏ جُنُوبِهِمْ وَ یَتَفَکَّرُونَ فی‏ خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَکَ فَقِنا عَذابَ النَّار) آل عمران/190ـ 191

لقد عرف أولو الألباب أن هذه الدنیا وما شملته من السموات والأرض لم تخلق باطلا. ولو کانت هی الهدف والغایة وکانت هی آخر المطاف لکان خلقها باطلا، وسبحان الله عن خلق شیء باطلا، فانتقلوا بتفکّرهم هذا من هذه الدنیا إلى ذکر ما بعد الدنیا؛ (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَکَ فَقِنا عَذابَ النَّار).

إن هذا الجهد الفکری والعملی هو خلاصة حیاة أولی الألباب فی هذه الدنیا. حیث إنهم أیقنوا أنها محل عبور وسوق تجارة وقاعة امتحان وساحة سباق وأرض زراعة وساحة تمرین وبجملة واحدة لیست بدار قرار، بل هی مقدمة وطریق إلى دار القرار.

ولا شکّ فی أن الإنسان بطبیعته لا یصبّ کل اهتمامه بالمراحل الانتقالیة العابرة، بل ینتقل منها بفکره وقلبه إلى ما هو ثابت ودائم.
۰ تعداد التعليقات موافقين ۰ مخالفين ۰
مقدام باقر الحيدري

29ـ إنها عملیات مدبرة

إنها عملیّة مدبّرة

إن کثیرا من برامج الکامرة الخفیة تنطوی على خطة إزعاج الناس عبر مشهد مختلق مدبّر. فقد یعتدی ممثل البرنامج على من یعثر علیه، أو یستفزّه بإساءة أو یزعجه بسلوکه… ثم یقف المخرج والجمهور متفرجین لیختبروا ردّ فعل الناس تجاه عمل هذا الإنسان الغثیث. وکثیرا ما نجد من تقوم قیامته ویمتلئ غیضا وغضبا على هذا الممثل المسکین وتکاد القضیة أن تصل إلى عراک ونزاع شدید… ولکن بمجرد أن یشیر الممثل إلى الکامرة الخفیة ویقول له مبتسما: "أنت أمام الکامرة الخفیة" ینتهی النزاع تماما وتظهر البسمة على شفاه هذا الإنسان وتعبر القضیة بسلامات.

یبدو من خلال هذه الظاهرة أن الإنسان یغضب من خلال الإزعاج غیر المدروس والمدبّر، لکن إن جاء أحد وهیأ ودبّر موقفا مزعجا وغیر مریح لیمتحن ویدرس ردود أفعال الناس تجاه هذا الأمر، فهذا عمل لا بأس به ویمکن التغاضی عنه بکل سهولة.

الواقع هو أننا أمام کامرة خفیة ثابتة، وکل ما یحدث فی العالم إنما یتمّ ضمن خطة وبرنامج، وهو غیر خارج عن الإخراج الإلهی. نحن نؤمن بالاختیار ولکن لا نؤمن بالتفویض التام، فلا یتمّ شیء ولا یتحقق أمر ولا یسیء أحد إلى أحد إلا بإمضاء الله وإذنه، أو قل بإخراجه. فالله سبحانه هو الذی قد سمح لبعض الناس أن یسیئوا إلینا ویزعجونا لیختبر أخلاقنا وأعصابنا فی أمثال هذه المواقف. وبالتأکید سوف یعاقب ذاک المسیء أیضا.

شاء الله سبحانه وتعالى أن لا یجعل الناس فی درجة واحدة من العلم والقدرة والقابلیة والذوق والصحة والکمال والجمال وباقی المواهب، بل فضل بعضا على بعض. فوفّر من خلال هذه الخطّة، أرضیة الصراع والنزاع والاختلاف والاصطدام، کما أنه قد هیّأ فی نفس الوقت فرصة الإیثار والمواساة والرحمة والسلوک إلى الکمال.

فالحقیقة أن هذه المواقف إنما هی عملیّات مدبرة من قبل الله سبحانه وتعالى بغرض اختبار مدى التزامنا بالقیم الإلهیة. (وَ هُوَ الَّذی جَعَلَکُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَ رَفَعَ بَعْضَکُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِیَبْلُوَکُمْ فی‏ ما آتاکُم‏) [الأنعام: 165]
۰ تعداد التعليقات موافقين ۰ مخالفين ۰
مقدام باقر الحيدري

28ـ نظرة مجهریة إلى إلکترونات الدین

لم یندبنا الله سبحانه فی القرآن للتدبّر فی آیات الکتاب وحسب، بل دعانا إلى التدبّر وإمعان النظر فی عالم الطبیعة أیضا. فکما قال سبحانه: (کِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَیْکَ مُبارَکٌ لِیَدَّبَّرُوا آیاتِهِ وَ لِیَتَذَکَّرَ أُولُوا الْأَلْباب‏)[ص/29]، قال تعالى: (إِنَّ فی‏ خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّیْلِ وَ النَّهارِ لَآیاتٍ لِأُولِی الْأَلْباب‏)[آل عمران/190].

ونحن نعلم أن القرآن کتاب هدى لا کتاب فیزیاء وکیمیاء أو أحیاء. فعندما یتطرق إلى مراحل خلق الجنین فی رحم أمّه لا ینبغی أن نفترض أن قد خرج عن موضوعه إلى موضوع الطّب. وکذلک عندما دعانا القرآن للتأمل فی کیفیّة خلق الإبل ورفع السماء ونصب الجبال وتسطیح الأرض فإنه لم ینحرف عن صلب موضوعه إلى علم الحیوان والفیزیاء وعلم الأرض، بل طرح هذه الحقائق وغیرها من المسائل الطبیعیة تعزیزا لهدفه الرئیس بل الوحید وهو هدایة الناس.

فإذا وجدنا القرآن یتحدّث فی بعض آیاته عن بعض الأبعاد الفیزیائیة والکیمیائیة والفسلجیة فی العالم، لابدّ أن تکون هناک علاقة بین عالم الطبیعة بمختلف أبعاده، وبین هذا البرنامج الإلهی الذی جاء به الرسول الأعظم(ص). وهذا هو المتوقّع جدا، إذ إن الله الذی فرض العبادات ونسق أرکانها وأجزاءها وأنزل دینه بما یشتمل علیه من رخص وعزائم، هو نفسه الذی خلق السماء بنجومها وکواکبها والأرض ببحارها وأنهارها ومعادنها وجبالها والأشجارَ بثمارها وأوراقها والحیوانات بمختلف أعضائها وشرائحها والإنسانَ بطاقاته ونزعاته ومواهبه. فهناک قواسم مشترکة کثیرة بین هذین الصعیدین؛ أی بین الدین والطبیعة. فإن الأسالیب التی استخدمها الله سبحانه وتعالى فی تکوین عالم الطبیعة، قد استخدمها نفسها فی تدوین شریعته الإسلامیّة، غیر أن هناک فوارق لا مناص منها بین عالم التکوین أی عالم الطبیعة، وبین التشریع أی هذا الدین الإسلامیّ الحنیف. فلنذهب قلیلا إلى هذا العالم لمشاهدة بعض الحقائق والقواعد السائدة فیه، ثم نلتفت عنه إلى الدین لنرى أن قد نسّقت أجزاؤه وأقیمت دعائمه وشیّدت أرکانه بنفس تلک الأسالیب والقواعد المستخدمة فی صنع هذا العالم الطبیعی. 

لقد اکتشف العلماء، أنّ مختلف أجسام هذا العالم إنما رکّبت من جزیئات صغیرة جدّا لا ترى بالعین المجرّدة وکذا الجزیئات قد رکّبت من ذرّات، ثم لیست الذرات هی الجزء الأصغر فی الأجسام، بل هی أجسام مرکّبة من جسیمات دون ذریّة کالبروتونات والإلکترونات والنیوترونات. وتدلّ هذه النظریّة العلمیّة التی أظنها أصبحت من المسلّمات، على أن الله سبحانه قد بذل منتهى الدّقة فی صنع العالم. وهو ـ سبحانه أن یکون له مِثْل ـ کالرسّام الذی یرسم لوحات کبیرة جدّا بشعرة واحدة لا بالفرشاة! وکالمعمار الذی یبنی عمارة فخمة جدا بلَبِنات صغیرة لا تتجاوز عن حجم حبّات السکّر! حیث إنه رکّب الجبال وأنشأ البحار وأبدع السماوات والأرضین بترکیب البروتونات والإلکترونات ولم یرض بلَبِنات أکبر!  

ولهذا تجد علماء الفیزیاء والکیمیاء وکذا الأطبّاء فی مختبراتهم یحاولون أن یستخدموا أدقّ الأجهزة والأدوات، إیمانا منهم بمدى دقّة هذا العالم وأهمیة النِّسب والمقادیر فیه. کما أنهم عندما یجرون اختبارا أو عملیّة ما، یأخذون بعین الاعتبار متغیرات کثیرة کالوزن والحجم والمسافة والسرعة والنّسبة والنور والحرارة والضغط وغیرها، إذ کلّ هذه المتغیّرات وإن لم یبال بها الإنسان العامّی، لها تأثیر کبیر فی الظواهر الطبیعیة وأحداثها. هذا هو أسلوب الله سبحانه فی صنع العالم حیث قد بذل منتهى الدّقة فی تصمیمه وإبداعه، فهل یعقل لهذا المصمّم الدقیق جدّا أن لا یبذل دقّته البالغة فی تنسیق شریعته وترکیب أجزاء عباداته وفرض أحکامه ونواهیه؟! ما هکذا الظن به ولا المعروف من عنده.

بهذه الرؤیة قد نستطیع أن نتفاعل مع شریعتنا الإسلامیة وما اشتملت علیه من أرقام ومقادیر وجزئیات دقیقة، ونحملها على محمل الجدّ إیمانا منّا بدقة صنع الله فی تکوینه وتشریعه. فقد یخامرنا أحیانا تساؤل واستغراب عن سبب بعض التعاقید فی أحکام الصلاة وغیرها من العبادات، أن لماذا أمر الله بالجهر فی صلوات الصبح والمغرب والعشاء، ونهى عنه فی الظهر والعصر، وما السبب من هذا التشدّد فی عدد رکعات الصلاة حیث تبطل الصلاة بازدیاد عدد الرکعات ونقصانها سهوا کان أو عمدا! وما الداعی للتشدد فی تلفظ کلمات الصلاة وأداء حروفها بشکل صحیح، وما الفرق بین أول الوقت وآخر الوقت، إلى غیرها من أمثال هذه الأسئلة.

والحقیقة هی أن کثیرا من هذه الأسئلة إنما نجمت من کوننا لم ننظر إلى الصلاة ککائن مرکب من عناصر وجزیئات وذرات وجسیمات دون ذریة. فلو نظرنا إلیها بهذه النظرة لرحبت صدورنا لهذه الدقائق والجزئیات والتفاصیل، ولما قلّ انتباهنا وتوجهنا حین قیامنا للصلاة فی المسجد، عن نباهة الطبیب الجرّاح أثناء مباشرته العملیة فی أحشاء مریضه، أو دقة عالِم الکیمیاء فی عملیة ترکیب العناصر أو تجزئتها فی مختبره، أو حرص عالِم الفیزیاء على حفظ المسافات والزوایا أثناء صنع ظاهرة فیزیائیة. فلابدّ أن نعرف أن هذا الدین عالَم أو کائنٌ هندسه الله الذی هندس هذا العالم الطبیعی بهذه الدّقة العالیة جدّا، ثمّ أمرنا أن نبنیه ونشیّده على أرض الواقع على أساس هذه الخریطة الإلهیة الرائعة والدقیقة جدا، وهی دین الإسلام.

إن هذه الرؤیة إلى الدین قادرة على إزالة بعض الغموض والتساؤلات عن بعض جزئیات الأحکام کحدود الحجاب المیلیمتریة، ومقادیر الخمس المحدّدة، ودقائق شعیرة الحج ومدّة الإمساک فی الصوم، ووقت الأذان وزمن البلوغ وغیرها من الأحکام. کما إذا عرف الإنسان هذه الحقیقة جیّدا سیتواضع لله ولدینه الذی ارتضاه، ولا یتمرّد على ربّه بمجرّد جهله بعلة أحد أحکام الإسلام وحکمته.
۱ تعداد التعليقات موافقين ۰ مخالفين ۰
مقدام باقر الحيدري