لم یندبنا الله سبحانه فی القرآن للتدبّر فی آیات الکتاب وحسب، بل دعانا إلى التدبّر وإمعان النظر فی عالم الطبیعة أیضا. فکما قال سبحانه: (کِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَیْکَ مُبارَکٌ لِیَدَّبَّرُوا آیاتِهِ وَ لِیَتَذَکَّرَ أُولُوا الْأَلْباب‏)[ص/29]، قال تعالى: (إِنَّ فی‏ خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّیْلِ وَ النَّهارِ لَآیاتٍ لِأُولِی الْأَلْباب‏)[آل عمران/190].

ونحن نعلم أن القرآن کتاب هدى لا کتاب فیزیاء وکیمیاء أو أحیاء. فعندما یتطرق إلى مراحل خلق الجنین فی رحم أمّه لا ینبغی أن نفترض أن قد خرج عن موضوعه إلى موضوع الطّب. وکذلک عندما دعانا القرآن للتأمل فی کیفیّة خلق الإبل ورفع السماء ونصب الجبال وتسطیح الأرض فإنه لم ینحرف عن صلب موضوعه إلى علم الحیوان والفیزیاء وعلم الأرض، بل طرح هذه الحقائق وغیرها من المسائل الطبیعیة تعزیزا لهدفه الرئیس بل الوحید وهو هدایة الناس.

فإذا وجدنا القرآن یتحدّث فی بعض آیاته عن بعض الأبعاد الفیزیائیة والکیمیائیة والفسلجیة فی العالم، لابدّ أن تکون هناک علاقة بین عالم الطبیعة بمختلف أبعاده، وبین هذا البرنامج الإلهی الذی جاء به الرسول الأعظم(ص). وهذا هو المتوقّع جدا، إذ إن الله الذی فرض العبادات ونسق أرکانها وأجزاءها وأنزل دینه بما یشتمل علیه من رخص وعزائم، هو نفسه الذی خلق السماء بنجومها وکواکبها والأرض ببحارها وأنهارها ومعادنها وجبالها والأشجارَ بثمارها وأوراقها والحیوانات بمختلف أعضائها وشرائحها والإنسانَ بطاقاته ونزعاته ومواهبه. فهناک قواسم مشترکة کثیرة بین هذین الصعیدین؛ أی بین الدین والطبیعة. فإن الأسالیب التی استخدمها الله سبحانه وتعالى فی تکوین عالم الطبیعة، قد استخدمها نفسها فی تدوین شریعته الإسلامیّة، غیر أن هناک فوارق لا مناص منها بین عالم التکوین أی عالم الطبیعة، وبین التشریع أی هذا الدین الإسلامیّ الحنیف. فلنذهب قلیلا إلى هذا العالم لمشاهدة بعض الحقائق والقواعد السائدة فیه، ثم نلتفت عنه إلى الدین لنرى أن قد نسّقت أجزاؤه وأقیمت دعائمه وشیّدت أرکانه بنفس تلک الأسالیب والقواعد المستخدمة فی صنع هذا العالم الطبیعی. 

لقد اکتشف العلماء، أنّ مختلف أجسام هذا العالم إنما رکّبت من جزیئات صغیرة جدّا لا ترى بالعین المجرّدة وکذا الجزیئات قد رکّبت من ذرّات، ثم لیست الذرات هی الجزء الأصغر فی الأجسام، بل هی أجسام مرکّبة من جسیمات دون ذریّة کالبروتونات والإلکترونات والنیوترونات. وتدلّ هذه النظریّة العلمیّة التی أظنها أصبحت من المسلّمات، على أن الله سبحانه قد بذل منتهى الدّقة فی صنع العالم. وهو ـ سبحانه أن یکون له مِثْل ـ کالرسّام الذی یرسم لوحات کبیرة جدّا بشعرة واحدة لا بالفرشاة! وکالمعمار الذی یبنی عمارة فخمة جدا بلَبِنات صغیرة لا تتجاوز عن حجم حبّات السکّر! حیث إنه رکّب الجبال وأنشأ البحار وأبدع السماوات والأرضین بترکیب البروتونات والإلکترونات ولم یرض بلَبِنات أکبر!  

ولهذا تجد علماء الفیزیاء والکیمیاء وکذا الأطبّاء فی مختبراتهم یحاولون أن یستخدموا أدقّ الأجهزة والأدوات، إیمانا منهم بمدى دقّة هذا العالم وأهمیة النِّسب والمقادیر فیه. کما أنهم عندما یجرون اختبارا أو عملیّة ما، یأخذون بعین الاعتبار متغیرات کثیرة کالوزن والحجم والمسافة والسرعة والنّسبة والنور والحرارة والضغط وغیرها، إذ کلّ هذه المتغیّرات وإن لم یبال بها الإنسان العامّی، لها تأثیر کبیر فی الظواهر الطبیعیة وأحداثها. هذا هو أسلوب الله سبحانه فی صنع العالم حیث قد بذل منتهى الدّقة فی تصمیمه وإبداعه، فهل یعقل لهذا المصمّم الدقیق جدّا أن لا یبذل دقّته البالغة فی تنسیق شریعته وترکیب أجزاء عباداته وفرض أحکامه ونواهیه؟! ما هکذا الظن به ولا المعروف من عنده.

بهذه الرؤیة قد نستطیع أن نتفاعل مع شریعتنا الإسلامیة وما اشتملت علیه من أرقام ومقادیر وجزئیات دقیقة، ونحملها على محمل الجدّ إیمانا منّا بدقة صنع الله فی تکوینه وتشریعه. فقد یخامرنا أحیانا تساؤل واستغراب عن سبب بعض التعاقید فی أحکام الصلاة وغیرها من العبادات، أن لماذا أمر الله بالجهر فی صلوات الصبح والمغرب والعشاء، ونهى عنه فی الظهر والعصر، وما السبب من هذا التشدّد فی عدد رکعات الصلاة حیث تبطل الصلاة بازدیاد عدد الرکعات ونقصانها سهوا کان أو عمدا! وما الداعی للتشدد فی تلفظ کلمات الصلاة وأداء حروفها بشکل صحیح، وما الفرق بین أول الوقت وآخر الوقت، إلى غیرها من أمثال هذه الأسئلة.

والحقیقة هی أن کثیرا من هذه الأسئلة إنما نجمت من کوننا لم ننظر إلى الصلاة ککائن مرکب من عناصر وجزیئات وذرات وجسیمات دون ذریة. فلو نظرنا إلیها بهذه النظرة لرحبت صدورنا لهذه الدقائق والجزئیات والتفاصیل، ولما قلّ انتباهنا وتوجهنا حین قیامنا للصلاة فی المسجد، عن نباهة الطبیب الجرّاح أثناء مباشرته العملیة فی أحشاء مریضه، أو دقة عالِم الکیمیاء فی عملیة ترکیب العناصر أو تجزئتها فی مختبره، أو حرص عالِم الفیزیاء على حفظ المسافات والزوایا أثناء صنع ظاهرة فیزیائیة. فلابدّ أن نعرف أن هذا الدین عالَم أو کائنٌ هندسه الله الذی هندس هذا العالم الطبیعی بهذه الدّقة العالیة جدّا، ثمّ أمرنا أن نبنیه ونشیّده على أرض الواقع على أساس هذه الخریطة الإلهیة الرائعة والدقیقة جدا، وهی دین الإسلام.

إن هذه الرؤیة إلى الدین قادرة على إزالة بعض الغموض والتساؤلات عن بعض جزئیات الأحکام کحدود الحجاب المیلیمتریة، ومقادیر الخمس المحدّدة، ودقائق شعیرة الحج ومدّة الإمساک فی الصوم، ووقت الأذان وزمن البلوغ وغیرها من الأحکام. کما إذا عرف الإنسان هذه الحقیقة جیّدا سیتواضع لله ولدینه الذی ارتضاه، ولا یتمرّد على ربّه بمجرّد جهله بعلة أحد أحکام الإسلام وحکمته.