عندما یدخل المؤمنون الجنة ویرحب بهم الملائکة قائلین لهم (سَلامٌ عَلَیْکُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدین) الزمر/73، لن یحددوا بموقع خاص دون آخر، ولن یقودهم الملائکة إلى قصورهم وبساتینهم لیحصروهم بالقصور والبساتین والجنان التی أزلفت لهم دون باقی نعم الجنان ومقاماتها، بل سیعطون منذ دخولهم إلى الجنان وإلى الأبد حریة مطلقة ومشیئة بلا حدود؛ (لَهُمْ ما یَشاؤُنَ فیها وَ لَدَیْنا مَزید)ق/35، (لَهُمْ فیها فاکِهَةٌ وَ لَهُمْ ما یَدَّعُون) یس/57. 

فالمؤمن حر فی الجنة وبإمکانه أن یذهب أینما یرید وحیث یشاء. ولعل هذه من أولى الکرامات العظیمة التی تعطى لأهل الجنة. کما سیشعرون أهل الجنة منذ دخولهم فی الجنان بهذه النعمة والکرامة فیحمدون الله علیها؛ (وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذی صَدَقَنا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَیْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلین)الزمر/74.

ولکن تعلم أیها القارئ الکریم أنه لیس کل أهل الجنة سوف یطلبون المقامات العالیة فی الجنان ومجاورة الأنبیاء والحضور فی جلسات الأنس مع محمد وأهل بیته علیهم السلام، بل سیکتفون بالحور والقصور وباقی النعم المتوفرة فی الدرجات النازلة من الجنة دون أن یشتهوا الأجواء التی یعیشها الأولیاء والشهداء والمقربون. 

وهذه من الحقائق العجیبة التی قد لا نقدر على إدراکها جیدا. ویا ترى کیف یمکن للإنسان المختار المرید أن یدع المقامات العلیا التی نالها الأولیاء والأنبیاء والشهداء ویکتفی بالمراتب المتوسطة أو النازلة من الجنان؟ ثم عندما یشرب الأبرار الرحیق المختوم بالمسک مع نکهة ومزاج من تسنیم، کیف لا یطمعون بالشراب الخالص من تسنیم وعینه الصافیة التی یشرب بها المقربون؟! (راجع سورة المطففین من الآیة 22 إلى 28)

قد لا نجد مثالا لهذه الظاهرة فی عالم الدنیا، إذ أننا نطمع بالشیء الفاخر والثمین ولا نختار الردیء إن أمکن الحصول على الأجود منه. ولکن یوجد مثال واحد على الأقل، ولعله من أهم أسباب بروز هذه الظاهرة فی الجنان، وهو أننا قنوعون فی مقام الدعاء والطلب مع عدم وجود أیّ حدّ یقیّدنا فی نطاق محدود من الطلبات. 

لقد فتح الله علینا باب الدعاء وضمن لنا الإجابة، ولکن أغلب المؤمنین قد اکتفوا فی أدعیتهم بطلب الجنة ونعمها النازلة، دون أن یشتهوا ویطلبوا مقام الأولیاء والمقربین ویدعوا لنیل ذاک المقام. وعلیه فسوف تتجسد هذه القناعة التی فی غیر محلها عند دخولنا فی الجنة وتجعلنا نقتنع بالقلیل الأدنى من نعیم الجنة غافلین عما یعیشه المقربون.

إن السبب فی هذه القناعة السلبیة هو طول الأمل فی الدنیا، إذ بقدر ما تطول آمالنا فی الجانب المادی والمسائل الدنیویة تقصر هذه الآمال فی المسائل المعنویة. إذ نحن لدینا رصید ثابت فی الآمال والأمنیات، فعندما نصرفه فی المسائل المادیة الحقیرة ینقص هذا الرصید فی تمنی المقامات العلیا والدرجات الرفیعة فی الجنان. لابد من ادخار الأمانی والاقتصاد فی الآمال شأنها کشأن الأموال لکی نستطیع أن نصرفها فی مجالها، وأی مجال أفضل وأولى من تمنی التقرب إلى الله ومجاورة الأولیاء والاستشهاد فی سبیل الله و…